موسم الحج والترجمة !

موسم الحج والترجمة!

لطالما نصحنا أساتذتنا أن ننظر إلى شعائرنا اليومية، وما يطرأ عليها من تغيرات، سواء كانت تلك التغيرات بسبب تقلبات سياسية مثلاً أو قدوم مواسم دينية، نظرةَ لغويٍّ متخصص، وعين مترجم ناقد (راجع مقال بعنوان: الاعتكاف وزكاة الفطر). ولذلك أحرص بين الفينة والأخرى أن أشارككم بعض خواطري التي تثيرها المواسم الدينية، فتستثير حفيظتي اللغوية وكذا شهيتي البحثية مما يدفعني إلى البحث في آراء واقتراحات أبرز علماء الترجمة الذين شغلتهم قضية المصطلحات الإسلامية … وها نحن الآن قد انتهينا للتو من موسم الحج، الذي ما فتأت القنوات الدينية، سواء باللغة العربية أو الإنجليزية، تتحدث عنه، وعن شعائره.

ولتناول الموضوع تناولًا لغويًّا سليمًا، دعونا نبدأه من جذوره. فالحج، وما يرتبط به من مناسك تتعلق بالطواف حول الكعبة وغيرها، هو مصطلح إسلامي. وقد أورد الدكتور حسن غزالة في صدر بحثه “ترجمة المصطلحات الإسلامية: مشاكل وحلول” تعريف المصطلح الإسلامي؛ وهو كل لفظ أو تعبير أو مفهوم جديد في اللغة العربية مصدره القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة والفقه الإسلامي. ويُصنف المصطلح الإسلامي إلى ثلاثة أنواع:

  1. النوع الأول: مصطلحات جديدة لم تكن جزءًا من مفردات العرب: مثل الجهاد، والقرآن الكريم، والزكاة، والشهادة والاستشهاد، ومصطلحات القيامة والجنة والنار، ومناسك الحج، إلخ.
  2. النوع الثاني: مصطلحات كانت موجودة أصلاً لدى العرب ولكن الإسلام أضاف لها بُعدًا دلاليًا جديدًا مثل: الصلاة والصوم والحج والسعي، والطواف والطهارة والوضوء، إلخ.
  3. النوع الثالث: مصطلحات في اللغة أبقى عليها الشرع شكلًا ومضمونًا مثل:الكعبة، الحرب، والسلم، والخراج، والعذاب، والعقاب إلخ.  

وبالنظر إلى التصنيف الوارد أعلاه، نجد أن الحج من المصطلحات الموجودة أصلاً في لغة العرب، ولكن الإسلام أضاف إليه بُعدًا دلاليًّا جديدًا؛ فالمعنى اللغوي للحج هو القصد، بينما المعنى الشرعي هو قصد الكعبة. ومن الجدير بالذكر أن الحج موجود في اليهودية والنصرانية، حتى في الهندوسية! ولكن شتان ما بين مفهومهم ومفهومنا للحج. لذا فإن مصطلح pilgrimage تقريبـي وليس لمدلوله أي علاقة بمدلوله الإسلامي. بل هو مصطلح عام يشير إلى أن المسلمين يحجون، ولكن كيف؟ هذا مما لا يستطيع المصطلح الإنجليزي أن يتضمنه.

وكان كلما ذُكر أمامي هذا المصطلح بوصفه مقابلًا لمصطلح الحج، أخذتني الغيرة على ديني. ولكن عندما مرَّ بي الزمن، علمت أن هذا هو حال ترجمة المصطلحات الإسلامية عمومًا؛ فلا يفهم القارئ الأجنبي الفهم الشرعي المطلوب إلا إذا كان مسلمًا عارفًا بأمور دينه، وإلا فهي مرادفات تقريبية تعطي فكرة عامة عن مفهوم من مفاهيم الإسلام؛ وهذا ما أكده د.حسن غزالة في بحثه. وأضاف قائلاً: “أي ترجمة لأي مصطلح إسلامي هي ترجمة تقريبية قاصرة في معناها عن الاحتواء الدقيق والكامل لأبعاد هذا المصطلح، كما يُفهم في الدين الإسلامي الفهم الصحيح… إذ أن مدلول المصطلح الإسلامي ليس كمدلول المصطلح المترجم في اللغة الأجنبية”. وهذا أمر بديهي، فطالما أن الله اختار اللغة العربية وعاءً للقرآن الكريم فهذا يعني أنه يتوافر في هذه اللغة ما لا يتوافر في غيرها وأن كثيرًا من الدلالات ستضيع في عملية الترجمة؛ لافتقار اللغات الأخرى ما تملكه اللغة العربية (راجع مقال”ترجمة القرآن أم ترجمة معانيه“).

واستأنف الدكتور حديثه قائلاً: “لا شك أن الشرح والتفسير كفيلان بإعطاء إيضاحات أكثر وتقريب الفكرة أكثر وتبيين المدلولات الرئيسة، لكن تبقى هذه شروحاً وتفاسير وإيضاحات، وليست ترجمات، من جهة، ولا تصل إلى درجة التطابق الكامل مع المصطلح الإسلامي فلا تصل إلى 100 بالمئة بأي شكل من الأشكال”. ولا يعني هذا أن ترجمة لفظة الحج بـ pilgrimage ترجمة خاطئة أو مرفوضة، بل المقصود هنا ألا نستمرأها شرعًا؛ لأنها لا ترقى إلى الأصل في كل شيء… فلنعلم أن هذه الترجمة مجرد نقل للفكرة، لكنها عارية من الخصوصية (البعد الدلالي الذي أضفاه الدين الإسلامي على المصطلح). وينسحب المبدأ نفسه على ترجمة لفظة العمرة Umrah or lesser pilgrimage  فهي مشتقة من الاعتمار أي “الزيارة”، بيد أن المراد زيارة الكعبة والطواف حولها والسعي بين الصفا والمروة سبعة أشواط ثم الحلق أو التقصير….

وإذا أردنا تحديد المشكل في ترجمة مصطلح الحج، فنجده ينبع من اختلاف المدلول في الديانات الأخرى.  أما المشكل في ترجمة بعض المصطلحات المتعلقة بمناسك الحج، مثل الإحرام والميقات، ومقام إبراهيم، وغيرها، فيكمن في عدم وجود أي أثر لتلك المصطلحات في اللغة المترجم إليها. إذن، فما السبيل لنقل مثل هذه المصطلحات إلى اللغة الانجليزية؟! يرد د. حسن غزالة في بحثه المُعنوَّن (ترجمة المصطلحات الإسلامية: مشاكل وحلول) فيقول: “إن الحل هو الرسم اللفظي “النقحرة” مع الشرح؛ إذ يضطر المترجم هنا إلى رسم المصطلح تمامًا كما يلفظ في اللغة العربية بأحرف لاتينية (وهو ما اصطُلح عليه بالإنجليزية بـtransliteration)، ثم يشرحه باللغة الأجنبية. مثال: الكعبة (Ka‘bah: the House of Allah and the direction of prayers) وهذه الطريقة في الترجمة مطلوبة حتى في حال الاعتراف رسميًّا بالمصطلح الإسلامي العربي، وضمه إلى اللغة الأجنبية، لسبب بسيط وهو أنه قد لا يكون معروفًا لقاعدة عريضة من القراء، وخاصة المسلمين الجدد”.

ومن خلال اطلاعي على بضعة كتيبات وفتاوى باللغة الانجليزية في هذا الموضوع وغيره، وجدت أن النقحرة مع الشرح هي الاستراتيجية الأكثر شيوعا لترجمة المصطلحات الإسلامية؛ فتجد الرمل Jogging)) Ramal والسعيSa:i (walking between the two amounts of Safa and Marwa) والهديHady ( (Sacrifices in Hajj والأضحية Udhiya (Sacrifices by none-piligrims on the first day of Eidul-Adha) وطواف الوداع Tawaf al-wida’ (Farewll circumambulation) ويوم النحر Day of Nahr (the 10th day of Duhl-Hijjah) . وربما يرجع شيوع هذه الاستراتيجية إلى أهميتها في ترسيخ المصطلح العربي لدى المسلمين الجدد مع توضيح مدلوله باختصار.    

    ومن باب الشيء بالشيء يُذكر، أود أن أشير أيضًا إلى إشكالية طرحها د.حسن غزالة تتعلق بترجمة مصطلح “الطواف” Tawaf بصفته أحد أركان الحج. فقد ذكر أن كثير من المصطلحات الإسلامية بحاجة إلى أكثر من مصطلح أجنبي واحد لترجمة كلٍّ منها؛ لأن الاقتصار في ترجمتها على مصطلح مرادف واحد يُبقي عليها غامضة. فكلمة circumambulation هي طواف أو دوران حول أي شيء، لكن بوصفه مصطلحًا إسلاميًّا يُقصد به طواف حول الكعبة المشرفة. إذًا ثمة بُعد دلالي ناقص في الترجمة وينبغي للمترجم سده  بإضافة عبارة around the Ka‘bah (حول الكعبة) للتوضيح.

وقد يخطر ببال أحدنا الآن سؤال وجيه وهو: هل ثمة استراتيجيات أخرى اعتمدها أكابر المترجمين لحل إشكالية ترجمة المصطلحات الإسلامية؟ فأقول لجأ المترجمون إلى طرق واستراتيجيات مختلفة بيَّنها أ.د.خالد توفيق في كتابه “مبادئ الترجمة الدينية”، وهي:

1-إعادة الصياغة (Paraphrase) أي إعادة صياغة الكلمة في عدة كلمات لتقريب معناها إلى القارئ. مثال: “يظاهرون”: “To say..be as my mother ‘s back”، وهذه الاستراتيجية على نفعها وتأصيلها للمعنى لدى القارئ الأجنبي إلا إنها تكسر التدفق القرآني “flow of the Quran”.  

2- التعميم (Generalization) أي إحلال لفظ عام يفهمه القارئ الغربي محل لفظ خاص بالدين الإسلامي. فمثلا ترجم داوود لفظة “الظهار” إلى لفظة عامة وهي “divorce”.

3– التوطين (Domestication) استخدام لفظة في اللغة المقابلة Target language قد يقرب المعنى ولكنه ليس في دقة اللفظ الأصلي. فترجم بعض المترجمين كلمة زكاة بـalms   وهي أقرب في المعنى للصدقة. ولجأ البعض الآخر إلى “levy” التي لا يراها الدكتور مناسبة على الإطلاق لأنها تعني-حسب قاموس المورد-“المبلغ المفروض أو المجبى” أو “فرض أو جباية الضرائب”.

4- النقحرة (Transliteration) فمنهم من ترجم زكاة “Zakat” واكتفى ولكن الدكتور خالد لا يرى ذلك ينبغي؛ بل يرى أنه ينبغي للمترجم الذي يلجأ إلى هذه الاستراتيجية أن يُقرِّن النقحرة بأحد الأشياء الآتية:

-ذكر معنى الكلمة بين قوسين (مثلما أشار د.حسن غزالة أعلاه)

-ذكره في حواشي نفس الصفحة footnotes

-ذكره في نهاية الفصل endnotes

-عمل قاموس لمثل هذه الكلمات في نهاية الترجمة glossary

فمثلاً ترجمة الزمازمة (أي من يعمل في توفير مياه زمزم للحجاج) بالنقحرة فقط “Zamazemah ” قد يضفي عليها الغموض، لذا لا بد من شرح معناها باختصار بين قوسين (Workers responsible for providing Zamzam water to pilgrims)

وهنا قد يقف المترجم حائرًا أمام هذه الاستراتيجيات؛ فلا يعلم أيهم يختار! والحقيقة أن ما استنبطه بالاستقراء أنه لا توجد قاعدة صارمة في هذا المضمار، ولكن لا بد من أخذ نوع النص وطبيعة الترجمة المطلوبة له بعين الاعتبار؛ فالاختصار الشديد مطلوب في ترجمة القرآن الكريم بينما الفتاوى مثلا تسمح بالتوضيح الموجز في بضع كلمات في حين أن طبيعة كتب الفقه تسمح بتقديم شروحات وتوضيحات.

فمثلا عند ترجمة فتوى تتعلق بنسيان الحاج لعقد النية من الميقات، فيمكنك ترجمة الميقات إلى   Miqat (Ihram station) / (Place fixed for taking on Ihram). أما إذا وردت في كتاب فقه الحج مثلا، فيمكن الاكتفاء بالنقحرة في متن الكتاب ثم إضافة حاشية سفلية توضح الميقات بأنه:


an assigned place where Muslims intending to perform pilgrimage or Umra”Lesser pilgrimage take off their ordinary clothes and put on pilgrim grab (known as Ihram).

وكي أُيسِّر عليك المسألة؛ خذ عني تلك الفائدة، وسأوضحها لك بالأمثلة. فإذا وجدت للمصطلح مرادفا مباشرا مفهوما وميسرا مثل المسجد الحرام The scared Mosque  وشعائر rites  والجمار Pebbles  ؛ فلم الإحجام عن استخدامه؟! فتلك هي الغنيمة الباردة. أما إذا وجدت أن الترجمة الحرفية لا تفي بالغرض، فيمكنك التوضيح بإيجاز شديد. مثال: “الحجر الأسود” (the Black stone: the holy stone niched in the Ka‘bah)؛ فقد أضيفت عبارة “الحجر المقدس” الموضوع في الكعبة لكي تتضح.

وما إذا وجدت اللفظة العربية قد أضحت مألوفة في الإنجليزية كالحج Hajj والعمرة  Umrah والكعبة Ka’bah وزمزم Zamzam، فيكفي نقحرتها. والأصل أن ضم المصطلحات العربية لا يكون إلا للمصطلح الخاص الذي لا نجد له مقابلاً مباشراً، أو على الأقل يلتبس مع مصطلح آخر في مدلوله.  فإذا خشيت عدم اتضاح مدلول المصطلح للقارئ الأجنبي لعدم وجود مقابل مباشر لديه، فيمكنك إعادة صياغة المصطلح paraphrase أو نحت ترجمة coinage تؤدي معنى اللفظ الأصلي أو أقرب شيء إليه شريطة الالتزام بترجمة واحدة من أول النص لآخره. فمثلاً لك أن تترجم “عمرة” بأحد الطرق الآتية في ضوء استراتيجية (Paraphrase):
Mini Pilgrimage- lesser Pilgrimage – shorter Pilgrimage  وكذلك يمكنك نحت ترجمة  من كلمات موجودة بالفعل في اللغة الإنجليزية لتوصيل معنى اللفظ الأصلي للقارئ قدر الإمكان مثل ترجمة “مُطوِّف”:  pilgrim guide؛ المهم في الأخير الالتزام بترجمة واحدة طوال النص.

أما وقد قضت الضرورة توضيح المصطلح لخصوصيته ولم تجد مرادفًا مباشرًا أو غير مباشر، فإذا استطعت شرح المصطلح باقتضاب بين قوسين بعد نقحرته، فقد ضربت عصفورين بحجر واحد لأنك أزلت إبهام المصطلح من جهة واقترحت مصطلحًا جديدًا قد يدخل اللغة الأجنبية عما قريب. فإن لم تستطع نقل معنى المصطلح باقتضاب في بضع كلمات بين قوسين، فيكفيك نقحرته في متن النص ثم شرحه في حاشية سفلية أو في آخر النص؛ وهو مخرج مقبول شريطة ألا يبالغ المترجم في ذلك.

أما بالنسبة الوزرات والهيئات الإسلامية، فلابد من التزام المترجم بالأسماء المعتمدة والترجمة المتداولة، فمثلا عند ترجمة مصطلح” وزارة الحج” في المملكة السعودية لا يمكن ترجمتها Ministry of Pilgrimage  رغم ذيوع مصطلح pilgrimage ، بيد أن الصواب ترجمتها Ministry of Hajj لأنه المصطلح المعتمد عليهم. وتنسحب القاعدة على ترجمة هيئة “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” الموجودة في الحرم المكي للرد على استفسارات الحجاج والمعتمرين؛ فقد يترجمها أحد المترجمين public Morality Authority وهي ترجمة لا بأس بها من الناحية اللغوية لكن الأصل أن نبحث عن اسم الهيئة وترجمته المعتمدة وهي
Commission for Promotion of Virtue and Prevention of Vice

وأخيرًا أود التأكيد على ضرورة بحث المترجم عن المصطلحات الاسلامية في معاجم المصطلحات الإسلامية والكتب الإسلامية ومواقع الفتاوى المعتبرة… فإذ استفرغ جهده ولم يجد، فليجتهد في ضوء ما ورد…أما وقد وجد أكثر من ترجمة، فعلمه بطرق الترجمة هذه وطبيعة النص المترجم ييسر عليه أمر المفاضلة…

#موسم الحج_والترجمة
#في_الترجمة الإسلامية
#إشكاليات وحلول
#استراتيجيات_لترجمة_المصطلحات_الإسلامية

أضف تعليق